(1) مَطْلُ الْغَنِيِّ
ظُلْمٌ
(1) بَاب الْحَوَالَةِ وَهَلْ يَرْجِعُ فِي الْحَوَالَةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ إِذَا كَانَ يَوْمَ أَحَالَ عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَخَارَجُ الشَّرِيكَانِ وَأَهْلُ الْمِيرَاثِ فَيَأْخُذُ
هَذَا عَيْنًا وَهَذَا دَيْنًا فَإِنْ تَوِيَ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا
أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ
قَوْله : ( وَهَلْ يَرْجِع فِي الْحَوَالَة ) إِشَارَة إِلَى خِلَاف فِيهَا هَلْ هِيَ عَقْد
لَازِم أَوْ جَائِز
قَوْله : ( وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَةُ إِذَا
كَانَ ) أَيْ الْمُحَال عَلَيْهِ ( يَوْم أُحَال
عَلَيْهِ مَلِيًّا جَازَ ) أَيْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع .
-
وَمَفْهُومه أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُفْلِسًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِع
.
-
وَقَيَّدَهُ أَحْمَد بِمَا إِذَا لَمْ يَعْلَم الْمُحْتَال
بِإِفْلَاسِ الْمُحَال عَلَيْهِ .
-
وَعَنْ الثَّوْرِيّ يَرْجِع بِالْمَوْتِ وَأَمَّا بِالْفَلَسِ
فَلَا يَرْجِع إِلَّا بِمَحْضَرِ الْمُحِيل وَالْمُحَال عَلَيْهِ .
-
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَرْجِع بِالْفَلَسِ مُطْلَقًا
سَوَاء عَاشَ أَوْ مَاتَ وَلَا يَرْجِع بِغَيْرِ الْفَلَس .
-
وَقَالَ مَالِك : لَا يَرْجِع إِلَّا إِنْ غَرَّهُ كَأَنْ
عَلِمَ فَلَس الْمُحَال عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْلِمهُ بِذَلِكَ .
-
وَذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى عَدَم الرُّجُوع مُطْلَقًا ،
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْل الرَّجُل أَحَلْته وَأَبْرَأَنِي حَوَّلْت
حَقّه عَنِّي وَأَثْبَتّه عَلَى غَيْرِي. وحَدِيثِ عُثْمَان أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَة
أَوْ الْكَفَالَة " يَرْجِع صَاحِبهَا لَا تَوَى " أَيْ لَا هَلَاك
" عَلَى مُسْلِم " فى إِسْنَاده رَجُل مَجْهُول عَنْ آخَر مَعْرُوف و
أيضا أنه مُنْقَطِع بَيْنه وَبَيْن عُثْمَان فَبَطَلَ الِاحْتِجَاج بِهِ.
قَوْله : ( وَقَالَ اِبْن عَبَّاس يَتَخَارَج
الشَّرِيكَانِ إِلَخْ )
-
قَالَ اِبْن التِّين مَحَلّه مَا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي
مَعَ اِسْتِوَاء الدَّيْن
-
وَقَوْله " تَوِيَ " بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة
وَكَسْر الْوَاو أَيْ هَلَكَ
-
وَالْمُرَاد أَنْ يُفْلِس مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْن أَوْ يَمُوت
أَوْ يَجْحَد فَيَحْلِف حَيْثُ لَا بَيِّنَة فَفِي كُلّ ذَلِكَ لَا رُجُوع لِمَنْ رَضِيَ
بِالدَّيْنِ ، قَالَ اِبْن الْمُنِير : وَوَجْهه أَنَّ مَنْ رَضِيَ بِذَلِكَ فَهَلَكَ
فَهُوَ فِي ضَمَانه كَمَا لَوْ اِشْتَرَى عَيْنًا فَتَلِفَتْ فِي يَده
قَوْله : ( مَطْل الْغَنِيّ ظُلْم )
-
فِي رِوَايَة " الْمَطْل ظُلْم الْغَنِيّ " وَالْمَعْنَى
أَنَّهُ مِنْ الظُّلْم ، وَأُطْلِقَ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّنْفِير عَنْ الْمَطْل
، وَقَدْ رَوَاهُ الْجَوْزَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " إِنَّ مِنْ
الظُّلْم مَطْل الْغَنِيّ " وَهُوَ يُفَسِّر الَّذِي قَبْله
-
وَأَصْل الْمَطْل الْمَدّ ، قَالَ اِبْن فَارِس : مَطَلْت الْحَدِيدَة أَمْطُلهَا
مَطْلًا إِذَا مَدَدْتهَا لِتَطُولَ ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : الْمَطْل الْمُدَافَعَة
-
وَالْمُرَاد هُنَا تَأْخِير مَا اُسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْر
.
-
وَالْغَنِيّ مُخْتَلَف فِي تَفْرِيعه وَلَكِنْ الْمُرَاد
بِهِ هُنَا مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاء فَأَخَّرَهُ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا كَمَا سَيَأْتِي
الْبَحْث فِيهِ .
-
وَهَلْ يَتَّصِف بِالْمَطْلِ مَنْ لَيْسَ الْقَدْر الَّذِي
اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ حَاضِرًا عِنْده لَكِنَّهُ قَادِر عَلَى تَحْصِيله بِالتَّكَسُّبِ
مَثَلًا ؟ أَطْلَقَ أَكْثَر الشَّافِعِيَّة عَدَم الْوُجُوب ، وَصَرَّحَ بَعْضهمْ بِالْوُجُوبِ
مُطْلَقًا ، وَفَصَلَ آخَرُونَ بَيْن أَنْ يَكُون أَصْل الدَّيْن وَجَبَ بِسَبَبٍ يُعْصَى
بِهِ فَيَجِب وَإِلَّا فَلَا
-
وَقَوْله " مَطْل الْغَنِيّ " هُوَ مِنْ إِضَافَة
الْمَصْدَر لِلْفَاعِلِ عِنْد الْجُمْهُور ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُم عَلَى
الْغَنِيّ الْقَادِر أَنْ يَمْطُل بِالدَّيْنِ بَعْد اِسْتِحْقَاقه بِخِلَافِ الْعَاجِز
، وَقِيلَ هُوَ مِنْ إِضَافَة الْمَصْدَر لِلْمَفْعُولِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ
يَجِب وَفَاء الدَّيْن وَلَوْ كَانَ مُسْتَحِقّه غَنِيًّا وَلَا يَكُون غِنَاهُ سَبَبًا
لِتَأْخِيرِ حَقّه عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فِي حَقّ الْغَنِيّ فَهُوَ فِي
حَقّ الْفَقِير أَوْلَى.
قَوْله : ( فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدكُمْ عَلَى
مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ )
-
بإِسْكَان الْمُثَنَّاة فِي " أُتْبِعَ "
وَهُوَ عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ مِثْل إِذَا أُعْلِمَ فَلْيَعْلَمْ ، تَقُول
تَبِعْت الرَّجُل بِحَقِّي أَتْبَعهُ تَبَاعَة بِالْفَتْحِ إِذَا طَلَبْته .
-
وَأَمَّا "فَلْيَتْبَعْ" فَإسكان
المثناة أيضا والْأَكْثَر عَلَى التَّخْفِيف ، وَقَيَّدَهُ بَعْضهمْ بِالتَّشْدِيدِ
، وَالْأَوَّل أَجْوَد . وَمَا اِدَّعَاهُ مِنْ الِاتِّفَاق عَلَى أُتْبِعَ يَرُدّهُ
قَوْل الْخَطَّابِيِّ : إِنَّ أَكْثَر الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَهُ بِتَشْدِيدِ التَّاء
وَالصَّوَاب التَّخْفِيف.
-
وَمَعْنَى قَوْله " أُتْبِعَ فَلْيَتْبَعْ " أَيْ
أُحِيلَ أحدكم بالدين الذى له على موسر فَلْيَحْتَلْ
-
وَالْمَلِيء بِالْهَمْزِ مَأْخُوذ مِنْ الْمُلَاء يُقَال
مَلُؤَ الرَّجُل بِضَمِّ اللَّام أَيْ صَارَ مَلِيًّا ، وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ :
الْمَلِيّ كَالْغَنِيِّ لَفْظًا وَمَعْنًى ، فَاقْتَضَى أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْز ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ فِي الْأَصْل بِالْهَمْزِ وَمَنْ رَوَاهُ
بِتَرْكِهَا فَقَدْ سَهَّلَهُ .
-
وَالْأَمْر فِي قَوْله فَلْيَتْبَعْ لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْد
الْجُمْهُور ، وَقِيلَ هُوَ أَمْر إِبَاحَة وَإِرْشَاد وَهُوَ شَاذّ ، وَحَمَلَهُ أَكْثَر
الْحَنَابِلَة وَأَبُو ثَوْر وَابْن جَرِير وَأَهْل الظَّاهِر عَلَى ظَاهِره ، وَعِبَارَة
الْخِرَقِيِّ " وَمَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيء فَوَاجِب عَلَيْهِ أَنْ
يَحْتَال " .
- ( تَنْبِيه ): اِدَّعَى الرَّافِعِيّ أَنَّ الْأَشْهَر فِي
الرِّوَايَات " وَإِذَا أُتْبِعَ " وَأَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ
لَا تَعَلُّق لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَزَعَمَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ
لَمْ يَرِد إِلَّا بِالْوَاوِ ، وَغَفَلَ عَمَّا فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ هُنَا فَإِنَّهُ
بِالْفَاءِ فِي جَمِيع الرِّوَايَات ، وَهُوَ كَالتَّوْطِئَةِ وَالْعِلَّة لِقَبُولِ
الْحَوَالَة ، أَيْ إِذَا كَانَ الْمَطْل ظُلْمًا فَلْيَقْبَلْ مَنْ يَحْتَال بِدَيْنِهِ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمُؤْمِن مِنْ شَأْنه أَنْ يَحْتَرِز عَنْ الظُّلْم فَلَا يَمْطُل
. نَعَمْ رَوَاهُ مُسْلِم بِالْوَاوِ وَكَذَا الْبُخَارِيّ فِي الْبَاب الَّذِي بَعْده
لَكِنْ قَالَ " وَمِنْ أُتْبِعَ "
-
وَمُنَاسَبَة الْجُمْلَة لِلَّتِي قَبْلهَا أَنَّهُ لَمَّا
دَلَّ عَلَى أَنَّ مَطْل الْغَنِيّ ظُلْم عَقَّبَهُ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي قَبُول الْحَوَالَة
عَلَى الْمَلِيء لِمَا فِي قَبُولهَا مِنْ دَفْع الظُّلْم الْحَاصِل بِالْمَطْلِ، فَإِنَّهُ
قَدْ تَكُون مُطَالَبَة الْمُحَال عَلَيْهِ سَهْلَة عَلَى الْمُحْتَال دُون الْمُحِيل
فَفِي قَبُول الْحَوَالَة إِعَانَة عَلَى كَفّه عَنْ الظُّلْم.
-
وَفِي الْحَدِيث الزَّجْر عَنْ الْمَطْل ، وَاخْتُلِفَ هَلْ
يُعَدّ فِعْله عَمْدًا كَبِيرَة أَمْ لَا؟ فَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّ فَاعِله يَفْسُق،
لَكِنْ هَلْ يَثْبُت فِسْقه بِمَطْلِهِ مَرَّة وَاحِدَة أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيّ
مُقْتَضَى، مَذْهَبنَا اِشْتِرَاط التَّكْرَار، وَرَدَّهُ السُّبْكِيُّ فِي "شَرْح
الْمِنْهَاج" بِأَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبنَا عَدَمه، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَنْع
الْحَقّ بَعْد طَلَبه وَابْتِغَاء الْعُذْر عَنْ أَدَائِهِ كَالْغَصْبِ وَالْغَصْب
كَبِيرَة، وَتَسْمِيَته ظُلْمًا يُشْعِر بِكَوْنِهِ كَبِيرَة، وَالْكَبِيرَة لَا يُشْتَرَط
فِيهَا التَّكْرَار. نَعَمْ لَا يُحْكَم عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِلَّا بَعْد أَنْ يَظْهَر
عَدَم عُذْره اِنْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَفْسُق بِالتَّأْخِيرِ مَعَ الْقُدْرَة
قَبْل الطَّلَب أَمْ لَا ؟ فَالَّذِي يُشْعِر بِهِ حَدِيث الْبَاب التَّوَقُّف عَلَى
الطَّلَب لِأَنَّ الْمَطْل يُشْعِر بِهِ، وَيَدْخُل فِي الْمَطْل كُلّ مَنْ لَزِمَهُ
حَقّ كَالزَّوْجِ لِزَوْجَته وَالسَّيِّد لِعَبْدِهِ وَالْحَاكِم لِرَعِيَّتِهِ وَبِالْعَكْسِ.
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَاجِز عَنْ الْأَدَاء
لَا يَدْخُل فِي الظُّلْم، وَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُوم لِأَنَّ تَعْلِيق الْحُكْم
بِصِفَةٍ مِنْ صِفَات الذَّات يَدُلّ عَلَى نَفْي الْحُكْم عَنْ الذَّات عِنْد اِنْتِفَاء
تِلْكَ الصِّفَة. وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ أَجَابَ بِأَنَّ الْعَاجِز لَا
يُسَمَّى مَاطِلًا، وَعَلَى أَنَّ الْغَنِيّ الَّذِي مَاله غَائِب عَنْهُ لَا يَدْخُل
فِي الظُّلْم. وَهَلْ هُوَ مَخْصُوص مِنْ عُمُوم الْغَنِيّ أَوْ لَيْسَ هُوَ فِي
الْحُكْم بِغَنِيٍّ؟ الْأَظْهَر الثَّانِي لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَة يَجُوز
إِعْطَاؤُهُ مِنْ سَهْم الْفُقَرَاء مِنْ الزَّكَاة ، فَلَوْ كَانَ فِي الْحُكْم غَنِيًّا
لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَنَّ الْمُعْسِر لَا يُحْبَس وَلَا
يُطَالَب حَتَّى يُوسِر ، قَالَ الشَّافِعِيّ : لَوْ جَازَتْ مُؤَاخَذَته لَكَانَ ظَالِمًا
، وَالْفَرْض أَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمٍ لِعَجْزِهِ . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَهُ
أَنْ يَحْبِسهُ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَهُ أَنْ يُلَازِمهُ .
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَة إِذَا صَحَّتْ
ثُمَّ تَعَذَّرَ الْقَبْض بِحُدُوثِ حَادِث كَمَوْتٍ أَوْ فَلَس لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ
الرُّجُوع عَلَى الْمُحِيل ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ الرُّجُوع لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ
الْغِنَى فَائِدَة ، فَلَمَّا شُرِطَتْ عُلِمَ أَنَّهُ اِنْتَقَلَ اِنْتِقَالًا لَا
رُجُوع لَهُ كَمَا لَوْ عَوَّضَهُ عَنْ دَيْنه بِعِوَضٍ ثُمَّ تَلِفَ الْعِوَض فِي
يَد صَاحِب الدَّيْن فَلَيْسَ لَهُ رُجُوع . وَقَالَ الْحَنَفِيَّة يَرْجِع عِنْد التَّعَذُّر،
وَشَبَّهُوهُ بِالضَّمَانِ.
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مُلَازَمَة الْمُمَاطِل وَإِلْزَامه
بِدَفْعِ الدَّيْن وَالتَّوَصُّل إِلَيْهِ بِكُلِّ طَرِيق وَأَخْذه مِنْهُ قَهْرًا
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اِعْتِبَار رِضَا الْمُحِيل وَالْمُحْتَال
دُون الْمُحَال عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُذْكَر فِي الْحَدِيث ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُور
.
-
وَفِيهِ الْإِرْشَاد إِلَى تَرْك الْأَسْبَاب الْقَاطِعَة
لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوب لِأَنَّهُ زَجْر عَنْ الْمُمَاطَلَة وَهِيَ تُؤَدِّي إِلَى
ذَلِكَ .
باب إِنْ أَحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ جَازَ
قَوْله : ( بَاب إِنْ أَحَالَ دَيْن الْمَيِّت
عَلَى رَجُل جَازَ ، وَإِذَا أَحَالَ عَلَى مَلِيء فَلَيْسَ لَهُ رَدّ )
-
وَمُنَاسَبَته لِلتَّرْجَمَةِ وَاضِحَة ، وَهُوَ يُشْعِر
بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُوَافِق لِلْجُمْهُورِ عَلَى عَدَم الرُّجُوع.
-
( تَنْبِيهَِ ) قَالَ اِبْن بَطَّال إِنَّمَا تَرْجَمَ بِالْحَوَالَةِ
فَقَالَ " إِنْ أَحَالَ دَيْن الْمَيِّت " ثُمَّ أَدْخَلَ حَدِيث سَلَمَة
وَهُوَ فِي الضَّمَان لِأَنَّ الْحَوَالَة وَالضَّمَان عِنْد بَعْض الْعُلَمَاء مُتَقَارِبَانِ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْر لِأَنَّهُمَا يَنْتَظِمَانِ فِي كَوْن كُلّ مِنْهُمَا
نَقَلَ ذِمَّة رَجُل إِلَى ذِمَّة رَجُل آخَر ، وَالضَّمَان فِي هَذَا الْحَدِيث نَقْل
مَا فِي ذِمَّة الْمَيِّت إِلَى ذِمَّة الضَّامِن فَصَارَ كَالْحَوَالَةِ سَوَاء .
قُلْت : وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ عَلَى ظَاهِر الْخَبَر
.
الحوالة عند الفقهاء: نقل دين من ذمة إلى
ذمة. واختلفوا هل هى:
-
بيع دين بدين رخص فيه للحاجة فاستثنى من النهي عن بيع
الدين بالدين؟
-
أو هى استيفاء لا بيع فيها أى استيفاء حق, كأن المحتال
استوفى ما كان له على المحيل وأقرضه المحال عليه؟
-
أو هى عقد إرفاق مستقبل؟
شروط صحة الحوالة:
-
رضا المحيل وهذا بلا خلاف لأنه إيفاء الحق من حيث شاء
فلا يعين عليه بعض الجهات قهرا
-
رضا المحتال وهذ عند الأكثرين لأن حقه فى ذمة المحيل فلا
ينفك عن ذمة المحيل إلا برضاه كما أن الأعيان المستحقة للشخص لا تبدل إلا برضاه
-
أما رضا المحال عليه ففيه خلاف.
o إن كانت الحوالة على من عليه دين للمحيل فيشترط
رضاه عند أبى حنيفة وبعض الشافعية لأنه أحد أركان الحوالة. والناس مختلفون فى
استيفاء حقوقهم منهم السهل المسامح الذي يرتاح المدين إلى سماحته، ومنهم الصعب
الذى لا يحب المدين أن يكون الدين له . ولا يشترط رضاه عند مالك وأحمد
وجمهور الشافعية لأنه محل الحق للمحيل ومن حق المحيل أن يستوفى حقه بنفسه وبغيره
كما لو وكل فى الاستيفاء وكيلا
o و إن كانت الحوالة على من عليه دين لا
للمحيل لم تصح دون رضاه لأنا لو صححناها لألزمناه قضاء دين الغير قهرا
(2) الْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمِ
قَوْله ( بَاب لَا يَظْلِمُ الْمُسْلِم الْمُسْلِم
وَلَا يُسْلِمُهُ )
-
بِضَمّ أَوَّله يُقَالُ : أَسْلَمَ فُلَان فُلَانًا إِذَا
أَلْقَاهُ إِلَى الْهَلَكَةِ وَلَمْ يَحْمِهِ مِنْ عَدُوِّهِ ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ
مَنْ أُسْلِمَ لِغَيْرِهِ ، لَكِنْ غَلَبَ فِي الْإِلْقَاءِ إِلَى الْهَلَكَةِ .
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ
كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ
عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قَوْله : ( الْمُسْلِم أَخُو الْمُسْلِمِ )
-
هَذِهِ أُخُوَّة الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ كُلَّ اِتِّفَاقٍ
بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُطْلِقُ بَيْنَهُمَا اِسْمَ الْأُخُوَّةِ ، وَيَشْتَرِكُ فِي ذَلِكَ
الْحُرُّ وَالْعَبْد وَالْبَالِغ وَالْمُمَيِّز .
قَوْله : ( لَا يَظْلِمُهُ )
-
هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَإِنَّ ظُلْم الْمُسْلِمِ
لِلْمُسْلِمِ حَرَام
وَقَوْله : (وَلَا يُسْلِمُهُ)
-
أَيْ لَا يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيه وَلَا فِيمَا يُؤْذِيه،
بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ، وَهَذَا أَخَصّ مِنْ تَرْك الظُّلْم، وَقَدْ يَكُونُ
ذَلِكَ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا بِحَسَبِ اِخْتِلَاف الْأَحْوَالِ.
-
وَزَادَ الطَّبَرَانِيّ مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ سَالِم
" وَلَا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ " وَلِمُسْلِمٍ فِي حَدِيث
أَبِي هُرَيْرَة " وَلَا يَحْقِرُهُ " وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَاف،
وَفِيهِ " بِحَسْب اِمْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ
" .
قَوْله : ( وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ
كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ)
-
فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْد مُسْلِم " وَاللَّهُ
فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْد فِي عَوْنِ أَخِيهِ ".
قَوْله : ( وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً
)
-
أَيْ غُمَّة، وَالْكَرْب هُوَ الْغَمُّ الَّذِي يَأْخُذُ
النَّفْسَ ، وَكُرُبَات بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْع كُرْبَة وَيَجُوزُ فَتْحُ رَاءِ كُرُبَات
وَسُكُونُهَا.
قَوْله : ( وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا )
-
أَيْ رَآهُ عَلَى قَبِيحٍ فَلَمْ يُظْهِرْهُ لِلنَّاسِ
-
وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَرْك الْإِنْكَار عَلَيْهِ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ
بِذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَنَصَحَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ عَنْ قَبِيحِ
فِعْلِهُ ثُمَّ جَاهَرَ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَتِرَ إِذَا وَقَعَ
مِنْهُ شَيْء، فَلَوْ تَوَجَّهَ إِلَى الْحَاكِمِ وَأَقَرَّ لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ
-
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّتْرَ مَحَلّه فِي مَعْصِيَةٍ
قَدْ اِنْقَضَتْ، وَالْإِنْكَارَ فِي مَعْصِيَةٍ قَدْ حَصَلَ التَّلَبُّس بِهَا فَيَجِبُ
الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَإِلَّا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ مِنْ الْغِيبَةِ
الْمُحَرَّمَةِ بَلْ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ،
-
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْغِيبَةِ لِأَنَّ مَنْ
أَظْهَرَ مَسَاوِئَ أَخِيهِ لَمْ يَسْتُرْهُ .
قَوْله : ( سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
)
-
فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْدَ التِّرْمِذِيّ "
سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ "
-
وَفِي الْحَدِيثِ حَضّ عَلَى التَّعَاوُنِ وَحُسْن التَّعَاشُر
وَالْأُلْفَة
-
وَفِيهِ أَنَّ الْمُجَازَاةَ تَقَعُ مِنْ جِنْس الطَّاعَات،
وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّ فُلَانًا أَخُوهُ وَأَرَادَ أُخُوَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ
يَحْنَثْ .
-
وَفِيهِ حَدِيث عَنْ سُوَيْد بْن حَنْظَلَة فِي أَبِي دَاوُد
فِي قِصَّةٍ لَهُ مَعَ وَائِل بْن حُجْرٍ .
بَاب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا
خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ
يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلَا يَخْذُلُهُ فَإِنْ قَاتَلَ
دُونَ الْمَظْلُومِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا قِصَاصَ وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ
الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ أَوْ تُقِرُّ
بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ هِبَةً وَتَحُلُّ عُقْدَةً أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ
فِي الْإِسْلَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ
لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّ
ابْنَكَ أَوْ أَبَاكَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ
بِمُضْطَرٍّ ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ إِنْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ ابْنَكَ
أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ يَلْزَمُهُ فِي
الْقِيَاسِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ
فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ
كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَقَالَ النَّخَعِيُّ
إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا
فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ
قَوْله ( وَكَذَلِكَ كُلّ مُكْرَه يَخَاف فَإِنَّهُ
) أَيْ الْمُسْلِم ( يَذُبّ ) أَيْ يَدْفَع
( عَنْهُ الظَّالِمَ وَيُقَاتِل دُونه ) أَيْ عَنْهُ
( وَلَا يَخْذُلهُ )
-
قَالَ اِبْن بَطَّال : ذَهَبَ مَالِك وَالْجُمْهُور إِلَى
أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِين إِنْ لَمْ يَحْلِفهَا قُتِلَ أَخُوهُ الْمُسْلِم
أَنَّهُ لَا حِنْث عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ يَحْنَث لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ
أَنْ يُوَرِّي فَلَمَّا تَرَكَ التَّوْرِيَة صَارَ قَاصِدًا لِلْيَمِينِ فَيَحْنَث
. وَأَجَابَ الْجُمْهُور بِأَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِين فَنِيَّتُهُ مُخَالِفَةٌ
لِقَوْلِهِ " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " .
قَوْله ( فَإِنْ قَاتَلَ دُون الْمَظْلُوم فَلَا
قَوَد عَلَيْهِ وَلَا قِصَاص )
-
قَوْله " وَلَا قِصَاص " تَأْكِيد ، أَوْ أَطْلَقَ
الْقَوَد عَلَى الدِّيَة .
-
وَاِخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَاتَلَ عَنْ رَجُل خَشِيَ عَلَيْهِ
أَنْ يُقْتَل فَقُتِلَ دُونه هَلْ يَجِب عَلَى الْآخَر قِصَاص أَوْ دِيَة ؟ فَقَالَتْ
طَائِفَة : لَا يَجِب عَلَيْهِ شَيْء لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُور فَفِيهِ " وَلَا
يُسْلِمهُ " وَفِي الْحَدِيث الَّذِي بَعْده " انْصُرْ أَخَاك " وَبِذَلِكَ
قَالَ عُمَر ،
-
وَقَالَتْ طَائِفَة : عَلَيْهِ الْقَوَد وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ
وَهُوَ يُشْبِه قَوْل اِبْن الْقَاسِم وَطَائِفَة مِنْ الْمَالِكِيَّة ، وَأَجَابُوا
عَنْ الْحَدِيث بِأَنَّ فِيهِ النَّدْب إِلَى النَّصْر وَلَيْسَ فِيهِ الْإِذْن بِالْقَتْلِ،
-
وَالْمُتَّجَه قَوْل اِبْن بَطَّال أَنَّ الْقَادِر عَلَى
تَخْلِيص الْمَظْلُوم تَوَجَّهَ عَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْم بِكُلِّ مَا يُمْكِنهُ ،
فَإِذَا دَافَعَ عَنْهُ لَا يَقْصِد قَتْل الظَّالِم وَإِنَّمَا يَقْصِد دَفْعه فَلَوْ
أَتَى الدَّفْعُ عَلَى الظَّالِم كَانَ دَمه هَدَرًا وَحِينَئِذٍ لَا فَرْق بَيْن دَفْعه
عَنْ نَفْسه أَوْ عَنْ غَيْره .
قَوْله ( وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْر
أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَة أَوْ لَنَبِيعَنَّ عَبْدك أَوْ لَتُقِرّ بِدَيْنٍ أَوْ
تَهَبُ هِبَة أَوْ تَحُلُّ عُقْدَة أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاك أَوْ أَخَاك فِي الْإِسْلَام
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُسْلِم أَخُو
الْمُسْلِم )
-
الْمُرَاد بِحَلِّ الْعُقْدَة فَسْخُهَا
-
وَقُيِّدَ الْأَخ بِالْإِسْلَامِ لِيَكُونَ أَعَمّ مِنْ الْقَرِيب
-
"وَسِعَهُ
ذَلِكَ " أَيْ جَازَ لَهُ جَمِيع ذَلِكَ لِيُخَلِّص أَبَاهُ وَأَخَاهُ ،
-
وَقَالَ اِبْن بَطَّال مَا مُلَخَّصُهُ : مُرَاد الْبُخَارِيّ
أَنَّ مَنْ هُدِّدَ بِقَتْلِ وَالِده أَوْ بِقَتْلِ أَخِيهِ فِي الْإِسْلَام—إِنْ لَمْ
يَفْعَل شَيْئًا مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ يُقِرّ عَلَى نَفْسه بِدَيْنٍ لَيْسَ عَلَيْهِ
أَوْ يَهَب شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ طِيب نَفْس مِنْهُ أَوْ يَحُلّ عَقْدًا كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاق بِغَيْرِ اِخْتِيَاره—أَنَّهُ يَفْعَل جَمِيع مَا هُدِّدَ بِهِ لِيَنْجُوَ
أَبُوهُ مِنْ الْقَتْل وَكَذَا أَخُوهُ الْمُسْلِم مِنْ الظُّلْم.
قَوْله ( وَقَالَ بَعْض النَّاس لَوْ قِيلَ لَهُ
لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْر أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَة أَوْ لَنَقْتُلَنَّ اِبْنك أَوْ
أَبَاك أَوْ ذَا رَحِم مَحْرَم لَمْ يَسَعهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ ، ثُمَّ
نَاقَضَ فَقَالَ : إِنْ قِيلَ لَهُ لَتَقْتُلَنَّ أَبَاك أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْد
أَوْ لَتُقِرَّنَّ بِدَيْنٍ أَوْ بِهِبَةٍ يَلْزَمهُ فِي الْقِيَاس ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِن
وَنَقُول الْبَيْع وَالْهِبَة وَكُلّ عُقْدَة فِي ذَلِكَ بَاطِل )
-
مَعْنَاهُ أَنَّ ظَالِمًا لَوْ أَرَادَ قَتْل رَجُل فَقَالَ
لِوَلَدِ الرَّجُل مَثَلًا إِنْ لَمْ تَشْرَب الْخَمْر أَوْ تَأْكُل الْمَيْتَة قَتَلْت
أَبَاك، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ قَتَلْت اِبْنك أَوْ ذَا رَحِم لَك فَفَعَلَ لَمْ
يَأْثَم عِنْد الْجُمْهُور،
-
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة يَأْثَم لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ
لِأَنَّ الْإِكْرَاه إِنَّمَا يَكُون فِيمَا يَتَوَجَّه إِلَى الْإِنْسَان فِي خَاصَّةِ
نَفْسِهِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْصِي اللَّه حَتَّى يَدْفَع عَنْ
غَيْره بَلْ اللَّه سَائِل الظَّالِم وَلَا يُؤَاخَذ الِابْنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِر
عَلَى الدَّفْع إِلَّا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلّ لَهُ اِرْتِكَابه ، قَالَ : وَنَظِيره
فِي الْقِيَاس مَا لَوْ قَالَ إِنْ لَمْ تَبِعْ عَبْدك أَوْ تُقِرَّ بِدَيْنٍ أَوْ
تَهَب هِبَة أَنَّ كُلّ ذَلِكَ يَنْعَقِد، كَمَا لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَرْتَكِب الْمَعْصِيَة
فِي الدَّفْع عَنْ غَيْره . ثُمَّ نَاقَضَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِن
وَنَقُول الْبَيْع وَغَيْره مِنْ الْعُقُود كُلّ ذَلِكَ بَاطِل ، فَخَالَفَ قِيَاس
قَوْله بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، فَلِذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيّ بَعْده
فَرَّقُوا بَيْن كُلّ ذِي رَحِم مَحْرَم وَغَيْره بِغَيْرِ كِتَاب وَلَا سُنَّة
" يَعْنِي أَنَّ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة فِي ذِي رَحِم بِخِلَافِ مَذْهَبهمْ فِي
الْأَجْنَبِيّ ، فَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ : لَنَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُل الْأَجْنَبِيّ
أَوْ لَتَبِيعَنَّ كَذَا فَفَعَلَ لِيُنَجِّيَهُ مِنْ الْقَتْل لَزِمَهُ الْبَيْع ،
وَلَوْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فِي ذِي رَحِمِهِ لَمْ يَلْزَمهُ مَا عَقَدَهُ .
-
وَالْحَاصِل أَنَّ أَصْل أَبِي حَنِيفَة اللُّزُوم فِي الْجَمِيع
قِيَاسًا لَكِنْ يُسْتَثْنَى مَنْ لَهُ مِنْهُ رَحِم اِسْتِحْسَانًا،
-
وَرَأَى الْبُخَارِيّ أَنْ لَا فَرْق بَيْن الْقَرِيب وَالْأَجْنَبِيّ
فِي ذَلِكَ لِحَدِيثِ " الْمُسْلِم
أَخُو الْمُسْلِم " فَإِنَّ الْمُرَاد بِهِ أُخُوَّة
الْإِسْلَام لَا النَّسَب ، وَلِذَلِكَ اِسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيم " هَذِهِ
أُخْتِي " ، وَالْمُرَاد أُخُوَّة الْإِسْلَام ، وَإِلَّا فَنِكَاحُ الْأُخْت
كَانَ حَرَامًا فِي مِلَّة إِبْرَاهِيم ، وَهَذِهِ الْأُخُوَّة تُوجِب حِمَايَة أَخِيهِ
الْمُسْلِم وَالدَّفْع عَنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا عَقَدَهُ وَلَا إِثْم عَلَيْهِ
فِيمَا يَأْكُل وَيَشْرَب لِلدَّفْعِ عَنْهُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَفْعَلَنَّ
كَذَا أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ يَسَعهُ إِتْيَانهَا وَلَا يَلْزَمهُ الْحُكْم وَلَا يَقَع
عَلَيْهِ الْإِثْم .
قَوْله ( وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ إِبْرَاهِيم لِامْرَأَتِهِ ) فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " لِسَارَةَ ".
قَوْله ( هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِي اللَّه
)
-
قَوْله " وَذَلِكَ فِي اللَّه " مِنْ كَلَام الْبُخَارِيّ
وَلَا مُخَالَفَة بَيْنه وَبَيْن مَفْهُوم الْحَدِيث الْمَذْكُور ، لِأَنَّ الْمُرَاد
أَنَّهُمَا مِنْ جِهَة مَحْض الْأَمْر الْإِلَهِيّ بِخِلَافِ الثَّالِثَة فَإِنَّ فِيهَا
شَائِبَة نَفْع وَحَظٍّ لَهُ ، وَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُون فِي اللَّه أَيْ مِنْ أَجْل
تَوَصُّله بِذَلِكَ إِلَى السَّلَامَة مِمَّا أَرَادَهُ الْجَبَّار مِنْهَا أَوْ مِنْهُ
.
قَوْله ( وَقَالَ النَّخَعِيُّ : إِذَا كَانَ
الْمُسْتَحْلِف ظَالِمًا فَنِيَّة الْحَالِف ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّة الْمُسْتَحْلِف
)
-
أى إِذَا اُسْتُحْلِفَ الرَّجُل وَهُوَ مَظْلُوم فَالْيَمِين
عَلَى مَا نَوَى وَعَلَى مَا وَرَّى ، وَإِذَا كَانَ ظَالِمًا فَالْيَمِين عَلَى نِيَّة
مَنْ اِسْتَحْلَفَهُ. يعنى إِذَا كَانَ الْحَالِف
مَظْلُومًا فَلَهُ أَنْ يُوَرِّي ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَرِّي.
وهذا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النِّيَّة عِنْده نِيَّة الْمَظْلُوم أَبَدًا. وَإِلَى مِثْله
ذَهَبَ مَالِك وَالْجُمْهُور.
-
وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة النِّيَّة نِيَّة الْحَالِف أَبَدًا.
-
قُلْت : وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّ الْحَلِف إِنْ كَانَ
عِنْد الْحَاكِم فَالنِّيَّة نِيَّة الْحَاكِم وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى نِيَّة صَاحِب
الْحَقّ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْر الْحُكْم فَالنِّيَّة نِيَّة الْحَالِف . قَالَ اِبْن
بَطَّال : وَيُتَصَوَّر كَوْنُ الْمُسْتَحْلِف مَظْلُومًا أَنْ يَكُون لَهُ حَقٌّ فِي
قِبَلِ رَجُل فَيَجْحَدهُ وَلَا بَيِّنَة لَهُ فَيَسْتَحْلِفهُ فَتَكُون النِّيَّة
نِيَّته لَا الْحَالِف فَلَا تَنْفَعهُ فِي ذَلِكَ التَّوْرِيَةُ .
(3) زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآن
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ
عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنِّى وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِى . فَقَامَتْ
طَوِيلاً فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا ، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ . قَالَ
« هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ تُصْدِقُهَا » . قَالَ مَا عِنْدِى إِلاَّ إِزَارِى
. فَقَالَ « إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ ، فَالْتَمِسْ
شَيْئًا » . فَقَالَ مَا أَجِدُ شَيْئًا . فَقَالَ « الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا
مِنْ حَدِيدِ » . فَلَمْ يَجِدْ . فَقَالَ « أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ
» . قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ سَمَّاهَا . فَقَالَ « زَوَّجْنَاكَهَا
بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ »
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ يَقُولُ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِىَّ يَقُولُ
إِنِّى لَفِى الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ قَامَتِ
امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ
فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا
ثُمَّ قَامَتِ الثَّالِثَةَ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ
فِيهَا رَأْيَكَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحْنِيهَا . قَالَ
« هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ » . قَالَ لاَ . قَالَ « اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا
مِنْ حَدِيدٍ » . فَذَهَبَ فَطَلَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا
وَلاَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ . فَقَالَ « هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ »
. قَالَ مَعِى سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا . قَالَ « اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا
بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ »
قَوْله ( حَدَّثَنَا سُفْيَان ) هُوَ اِبْن عُيَيْنَةَ .
وَهَذَا الْحَدِيث مَدَاره عَلَى أَبِي حَازِم
سَلَمَة بْن دِينَار الْمَدَنِيّ وَهُوَ مِنْ صِغَار التَّابِعِينَ
قَوْله ( إِنِّي لَفِي الْقَوْم عِنْد رَسُول
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَامَتْ اِمْرَأَة )
الْمُرَاد أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى أَنْ وَقَفَتْ
عِنْدهمْ ، لَا أَنَّهَا كَانَتْ جَالِسَة فِي الْمَجْلِس فَقَامَتْ . وَوَقَعَ فِي
" الْأَحْكَام لِابْنِ الْقَصّاع " أَنَّهَا خَوْلَة بِنْت حَكِيم أَوْ أُمّ
شَرِيك ، وَهَذَا نَقْلٌ مِنْ اِسْم الْوَاهِبَة الْوَارِد فِي قَوْله تَعَالَى ( وَامْرَأَة
مُؤْمِنَة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَان اِسْمهَا
فِي تَفْسِير الْأَحْزَاب وَمَا يَدُلّ عَلَى تَعَدُّد الْوَاهِبَة .
قَوْله ( فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّه إِنَّهَا
قَدْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لَك )
-
كَانَ السِّيَاق يَقْتَضِي أَنْ تَقُول إِنِّي قَدْ وَهَبْت
نَفْسِي لَك ، وَبِهَذَا اللَّفْظ وَقَعَ فِي رِوَايَة مَالِك ، وَكَذَا الثَّوْرِيّ
عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّه جِئْت أَهَب نَفْسِي لَك
" وَفِي رِوَايَة فُضَيْلِ بْن سُلَيْمَان " فَجَاءَتْهُ اِمْرَأَة تَعْرِض
نَفْسهَا عَلَيْهِ "
-
وَفِي كُلّ هَذِهِ الرِّوَايَات حَذْف مُضَاف تَقْدِيره أَمْر
نَفْسِي أَوْ نَحْوه ، وَإِلَّا فَالْحَقِيقَة غَيْر مُرَادَة لِأَنَّ رَقَبَة الْحُرّ
لَا تُمْلَك ، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ أَتَزَوَّجك مِنْ غَيْر عِوَض .
قَوْله ( فَرَ فِيهَا رَأْيك )
كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِرَاءٍ وَاحِدَة مَفْتُوحَة
بَعْدهَا فَاء التَّعْقِيب ، وَهِيَ فِعْلُ أَمْر مِنْ الرَّأْي ، وَلِبَعْضِهِمْ بِهَمْزَةٍ
سَاكِنَة بَعْد الرَّاء وَكُلّ صَوَاب ، وَوَقَعَ بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَة فِي حَدِيث
اِبْن مَسْعُود أَيْضًا .
قَوْله ( فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا )
-
وَفِي رِوَايَة يَعْقُوب وَابْن حَازِم وَهِشَام بْن سَعْد
" فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَصَعَّدَ النَّظَر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ " وَهُوَ
بِتَشْدِيدِ الْعَيْن مِنْ صَعَّدَ وَالْوَاو مِنْ صَوَّبَ ، وَالْمُرَاد أَنَّهُ نَظَرَ
أَعْلَاهَا وَأَسْفَلهَا ،
-
وَالتَّشْدِيد إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأَمُّل وَإِمَّا
لِلتَّكْرِيرِ ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْقُرْطُبِيّ فِي " الْمُفْهِم "
قَالَ : أَيْ نَظَرَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلهَا مِرَارًا . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة فُضَيْلِ
بْن سُلَيْمَان " فَخَفَّضَ فِيهَا الْبَصَر وَرَفَّعَهُ " وَهُمَا بِالتَّشْدِيدِ
أَيْضًا
-
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْه
" النَّظَر " بَدَل الْبَصَر ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة " ثُمَّ
طَأْطَأَ رَأْسه " وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْله " فَصَمَتَ " وَقَالَ فِي
رِوَايَة فُضَيْلِ بْن سُلَيْمَان " فَلَمْ يَرُدّهَا " وَقَدْ قَدَّمْت
ضَبْط هَذِهِ اللَّفْظَة فِي " بَاب إِذَا كَانَ الْوَلِيّ هُوَ الْخَاطِب
" .
قَوْله ( ثُمَّ قَامَتْ فَقَالَتْ )
-
وَهُوَ نَعْت مَصْدَر مَحْذُوف أَيْ قِيَامًا طُولًا ، أَوْ
لِظَرْفٍ مَحْذُوف أَيْ زَمَانًا طَوِيلًا
-
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد أَنَّهَا
" وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَقَالَ : مَا لِي فِي النِّسَاء حَاجَة
" وَيُجْمَع بَيْنهَا وَبَيْن مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي آخِر الْحَال
، فَكَأَنَّهُ صَمَتَ أَوَّلًا لِتَفْهَم أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا ، فَلَمَّا أَعَادَتْ
الطَّلَب أَفْصَح لَهَا بِالْوَاقِعِ .
-
وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْد النَّسَائِيِّ
" جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ
نَفْسهَا عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهَا اِجْلِسِي ، فَجَلَسَتْ سَاعَة ثُمَّ قَامَتْ ،
فَقَالَ : اِجْلِسِي بَارَكَ اللَّه فِيك ، أَمَّا نَحْنُ فَلَا حَاجَة لَنَا فِيك
" فَيُؤْخَذ مِنْهُ وُفُور أَدَب الْمَرْأَة مَعَ شِدَّة رَغْبَتهَا لِأَنَّهَا
لَمْ تُبَالِغ فِي الْإِلْحَاح فِي الطَّلَب ، وَفَهِمَتْ مِنْ السُّكُوت عَدَم الرَّغْبَة
، لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَيْأَس مِنْ الرَّدّ جَلَسَتْ تَنْتَظِر الْفَرَجَ ،
-
وَسُكُوته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا حَيَاء
مِنْ مُوَاجَهَتهَا بِالرَّدِّ وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيد الْحَيَاء
جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِفَته أَنَّهُ كَانَ أَشَدّ حَيَاء مِنْ الْعَذْرَاء فِي
خِدْرهَا ، وَإِمَّا اِنْتِظَارًا لِلْوَحْيِ ، وَإِمَّا تَفَكُّرًا فِي جَوَاب يُنَاسِب
الْمَقَام .
قَوْله ( فَقَامَ رَجُل )
وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود " فَقَالَ
رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يَنْكِح هَذِهِ ؟ فَقَامَ رَجُل
" .
قَوْله ( فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه أَنْكِحْنِيهَا
)
فِي رِوَايَة مَالِك " زَوِّجْنِيهَا إِنْ
لَمْ يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَة " وَلَا يُعَارِض هَذَا قَوْله فِي حَدِيث حَمَّاد
بْن زَيْد " لَا حَاجَة لِي " لِجَوَازِ أَنْ تَتَجَدَّد الرَّغْبَة فِيهَا
بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ .
قَوْله ( قَالَ هَلْ عِنْدك مِنْ شَيْء )
زَادَ فِي رِوَايَة مَالِك " تُصْدِقهَا
" وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود " أَلَك مَال " .
قَوْله ( قَالَ لَا )
-
وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عِنْد النَّسَائِيِّ
بَعْد قَوْله لَا حَاجَة لِي " وَلَكِنْ تُمْلِكِينِي أَمْرك ، قَالَتْ نَعَمْ
. فَنَظَرَ فِي وُجُوه الْقَوْم فَدَعَا رَجُلًا فَقَالَ : إِنِّي أُرِيدَ أَنْ أُزَوِّجك
هَذَا إِنْ رَضِيت ، قَالَتْ مَا رَضِيت لِي فَقَدْ رَضِيت " وَهَذَا إِنْ كَانَتْ
الْقِصَّة مُتَّحِدَة يَحْتَمِل أَنْ يَكُون وَقَعَ نَظَره فِي وُجُوه الْقَوْم بَعْد
أَنْ سَأَلَهُ الرَّجُل أَنْ يُزَوِّجهَا لَهُ فَاسْتَرْضَاهَا أَوَّلًا ثُمَّ تَكَلَّمَ
مَعَهُ فِي الصَّدَاق
-
وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي " فَوَائِد أَبِي
عُمَر بْن حَيْوَةَ " أَنَّ رَجُلًا قَالَ " إِنَّ هَذِهِ اِمْرَأَة رَضِيَتْ
بِي فَزَوِّجْهَا مِنِّي ، قَالَ : فَمَا مَهْرهَا ؟ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْء : قَالَ
: اُمْهُرْهَا مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ . قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْلِك
شَيْئًا " وَهَذِهِ الْأَظْهَر فِيهَا التَّعَدُّد .
قَوْله ( قَالَ اِذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا
مِنْ حَدِيد )
-
فِي رِوَايَة اِذْهَبْ إِلَى أَهْلك فَانْظُرْ هَلْ تَجِد
شَيْئًا . فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا وَاللَّه يَا رَسُول اللَّه مَا وَجَدْت
شَيْئًا . قَالَ اُنْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ
: لَا وَاللَّه يَا رَسُول اللَّه وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيد "
-
وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن سَعْد " فَذَهَبَ فَالْتَمَسَ
فَلَمْ يَجِد شَيْئًا فَرَجَعَ فَقَالَ لَمْ أَجِد شَيْئًا فَقَالَ لَهُ : اِذْهَبْ
فَالْتَمِسْ " وَقَالَ فِيهِ " فَقَالَ : وَلَا خَاتَم مِنْ حَدِيد لَمْ
أَجِدهُ ، ثُمَّ جَلَسَ "
-
وَوَقَعَ فِي خَاتَم النَّصْب عَلَى الْمَفْعُولِيَّة لِأَلْتَمِس
، وَالرَّفْع عَلَى تَقْدِير مَا حَصَلَ لِي وَلَا خَاتَم
-
وَلَوْ فِي قَوْله وَلَوْ خَاتَمًا تَقْلِيلِيّة. وَوَقَعَ
فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة " قَالَ قُمْ إِلَى النِّسَاء . فَقَامَ إِلَيْهِنَّ
فَلَمْ يَجِد عِنْدهنَّ شَيْئًا " وَالْمُرَاد بِالنِّسَاءِ أَهْل الرَّجُل كَمَا
دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَة يَعْقُوب .
قَوْله ( قَالَ هَلْ مَعَك مِنْ الْقُرْآن شَيْء
)
-
فَفِي رِوَايَة مَالِك قَالَ " هَلْ عِنْدك مِنْ شَيْء
تُصْدِقهَا إِيَّاهُ ؟ قَالَ : مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا . فَقَالَ إِزَارك
إِنْ أَعْطَيْتهَا جَلَسْت لَا إِزَار لَك ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا "
-
وَيَجُوز فِي قَوْله " إِزَارك " الرَّفْع عَلَى
الِابْتِدَاء وَالْجُمْلَة الشَّرْطِيَّة الْخَبَر وَالْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف
تَقْدِيره إِيَّاهُ ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَة ، وَيَجُوز النَّصْب عَلَى أَنَّهُ
مَفْعُول ثَانٍ لِأَعْطَيْتُهَا ، وَالْإِزَار يُذَكَّر وَيُؤَنَّث .
-
قَالَ سَهْل أَيْ اِبْن سَعْد الرَّاوِي : "مَا لَهُ
رِدَاء فَلَهَا نِصْفه" قَالَ مَا تَصْنَع بِإِزَارِك إِنْ لَبِسْتَهُ "
الْحَدِيث ، وَوَقَعَ لِلْقُرْطُبِيِّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة وَهْمٌ فَإِنَّهُ ظَنَّ
أَنَّ قَوْله فَلَهَا نِصْفه مِنْ كَلَام سَهْل بْن سَعْد فَشَرَحَهُ بِمَا نَصَّهُ
وَقَوْل سَهْل مَا لَهُ رِدَاء فَلَهَا نِصْفه ظَاهِره لَوْ كَانَ لَهُ رِدَاء لَشَرِكَهَا
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ، وَهَذَا بَعِيد إِذْ لَيْسَ فِي
كَلَام النَّبِيّ وَلَا الرَّجُل مَا يَدُلّ عَلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ وَيُمْكِن
أَنْ يُقَال إِنَّ مُرَاد سَهْل أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ رِدَاء مُضَاف إِلَى الْإِزَار
لَكَانَ لِلْمَرْأَةِ نِصْف مَا عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ إِمَّا الرِّدَاء وَإِمَّا الْإِزَار
لِتَعْلِيلِهِ الْمَنْع بِقَوْلِهِ " إِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْك مِنْهُ
شَيْء " فَكَأَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ عَلَيْك ثَوْب تَنْفَرِد أَنْتَ بِلُبْسِهِ
وَثَوْب آخَر تَأْخُذهُ هِيَ تَنْفَرِد بِلُبْسِهِ لَكَانَ لَهَا أَخْذه ، فَإِمَّا
إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا اِنْتَهَى .
-
وَقَدْ أَخَذَ كَلَامه هَذَا بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ فَذَكَرَهُ
مُلَخَّصًا ، وَهُوَ كَلَام صَحِيح لَكِنَّهُ مَبْنِيّ عَلَى الْفَهْم الَّذِي دَخَلَهُ
الْوَهْم ، وَالَّذِي قَالَ " فَلَهَا نِصْفه " هُوَ الرَّجُل صَاحِب الْقِصَّة
، وَكَلَام سَهْل إِنَّمَا هُوَ قَوْله " مَا لَهُ رِدَاء فَقَطْ " وَهِيَ
جُمْلَة مُعْتَرَضَة ، وَتَقْدِير الْكَلَام : وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي فَلَهَا نِصْفه
، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة أَبِي غَسَّان مُحَمَّد بْن مُطَرِّف
وَلَفْظه " وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفه " قَالَ سَهْل : وَمَا
لَهُ رِدَاء . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الثَّوْرِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " فَقَامَ
رَجُل عَلَيْهِ إِزَار وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاء "
-
وَمَعْنَى قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" إِنْ لَبِسْتَهُ إِلَخْ " أَيْ إِنْ لَبِسْتَهُ كَامِلًا وَإِلَّا فَمِنْ
الْمَعْلُوم مِنْ ضِيق حَالهمْ وَقِلَّة الثِّيَاب عِنْدهمْ أَنَّهَا لَوْ لَبِسَتْهُ
بَعْد أَنْ تَشُقّهُ لَمْ يَسْتُرهَا ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالنَّفْيِ
نَفْي الْكَمَال لِأَنَّ الْعَرَب قَدْ تَنْفِي جُمْلَة الشَّيْء إِذَا اِنْتَفَى كَمَاله.
وَالْمَعْنَى لَوْ شَقَقْته بَيْنكُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَحْصُل كَمَال سِتْرك
بِالنِّصْفِ إِذَا لَبِسْته وَلَا هِيَ.
-
وَوَقَعَ فِي رِوَايَة حَمَّاد بْن زَيْد " فَقَالَ
أَعْطِهَا ثَوْبًا ، قَالَ لَا أَجِد ، قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد
فَاعْتَلَّ لَهُ " وَمَعْنَى قَوْله " فَاعْتَلَّ لَهُ " أَيْ اِعْتَذَرَ
بِعَدَمِ وِجْدَانه كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَة غَيْره ،
-
وَفِي رِوَايَة مَعْمَر قَالَ " فَهَلْ تَقْرَأ مِنْ
الْقُرْآن شَيْئًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : سُورَة كَذَا
" وَعُرِفَ بِهَذَا الْمُرَاد بِالْمَعِيَّةِ وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْحِفْظ عَنْ
ظَهْرِ قَلْبه ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِير ذَلِكَ فِي فَضَائِل الْقُرْآن وَبَيَان
مَنْ زَادَ فِيهِ " أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبك " وَكَذَا وَقَعَ
فِي رِوَايَة الثَّوْرِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " قَالَ مَعِي سُورَة كَذَا
وَمَعِي سُورَة كَذَا ، قَالَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبك ؟ قَالَ نَعَمْ " .
قَوْله ( سُورَة كَذَا وَسُورَة كَذَا )
-
زَادَ مَالِك تَسْمِيَتهَا،
-
وَفِي رِوَايَة " عَدَّهُنَّ " وَفِي رِوَايَة
" لِسُوَرٍ يُعَدِّدهَا " وَفِي رِوَايَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ رَجُلًا اِمْرَأَة عَلَى سُورَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآن
يُعَلِّمهَا إِيَّاهُمَا "
-
وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ " مَا تَحْفَظ
مِنْ الْقُرْآن ؟ قَالَ : سُورَة الْبَقَرَة أَوْ الَّتِي تَلِيهَا "
-
وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود " قَالَ نَعَمْ
سُورَة الْبَقَرَة وَسُورَة الْمُفَصَّل "
-
وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس " أُزَوِّجهَا مِنْك عَلَى
أَنْ تُعَلِّمهَا أَرْبَع - أَوْ خَمْس - سُوَر مِنْ كِتَاب اللَّه "
-
وَيُجْمَع بَيْن هَذِهِ الْأَلْفَاظ بِأَنَّ بَعْض الرُّوَاة حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظ
بَعْض ، أَوْ أَنَّ الْقَصَص مُتَعَدِّدَة .
قَوْله ( اِذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكهَا بِمَا
مَعَك مِنْ الْقُرْآن )
-
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد أَشْيَاء غَيْر مَا
تَرْجَمَ بِهِ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب الْوَكَالَة وَفَضَائِل الْقُرْآن وَعِدَّة
تَرَاجِم فِي كِتَاب النِّكَاح.
-
وَفِيهِ أَيْضًا أَنْ لَا حَدّ لِأَقَلّ الْمَهْر ، قَالَ
اِبْن الْمُنْذِر : فِيهِ رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَقَلّ الْمَهْر عَشَرَة دَرَاهِم
وَكَذَا مَنْ قَالَ رُبْع دِينَار ، قَالَ : لِأَنَّ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد لَا يُسَاوِي
ذَلِكَ . وَقَالَ الْمَازِرِيّ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ أَجَازَ النِّكَاح بِأَقَلّ مِنْ
رُبْع دِينَار لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَج التَّعْلِيل
-
وَلَكِنْ مَالِك قَاسَهُ عَلَى الْقَطْع فِي السَّرِقَة
. قَالَ عِيَاض : تَفَرَّدَ بِهَذَا مَالِك عَنْ الْحِجَازِيِّينَ ، لَكِنْ مُسْتَنَده
الِالْتِفَات إِلَى قَوْله تَعَالَى ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ) وَبِقَوْلِهِ
( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ) فَإِنَّهُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد
مَا لَهُ بَال مِنْ الْمَال وَأَقَلّه مَا اُسْتُبِيحَ بِهِ قَطْع الْعُضْو الْمُحْتَرَم
،
-
قَالَ : وَأَجَازَهُ الْكَافَّة بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ
الزَّوْجَانِ أَوْ مِنْ الْعَقْد إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَة كَالسَّوْطِ وَالنَّعْل
إِنْ كَانَتْ قِيمَته أَقَلّ مِنْ دِرْهَم ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ
وَأَبُو الزِّنَاد وَرَبِيعَة وَابْن أَبِي ذِئْب وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة
غَيْر مَالِك وَمَنْ تَبِعَهُ وَابْن جُرَيْجٍ وَمُسْلِم بْن خَالِد وَغَيْرهمَا مِنْ
أَهْل مَكَّة وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْل الشَّام وَاللَّيْث فِي أَهْل مِصْر وَالثَّوْرِيّ
وَابْن أَبِي لَيْلَى وَغَيْرهمَا مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ غَيْر أَبِي حَنِيفَة وَمَنْ
تَبِعَهُ وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُدُ وَفُقَهَاء أَصْحَاب الْحَدِيث وَابْن وَهْب مِنْ
الْمَالِكِيَّة .
-
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : أَقَلّه عَشَرَة ، وَابْن شُبْرُمَةَ
أَقَلّه خَمْسَة ، وَمَالِك أَقَلّه ثَلَاثَة أَوْ رُبْع دِينَار بِنَاء عَلَى اِخْتِلَافهمْ
فِي مِقْدَار مَا يَجِب فِيهِ الْقَطْع . وَقَدْ قَالَ الدَّرَاوَرْدِيّ لِمَالِك لَمَّا
سَمِعَهُ يَذْكُر هَذِهِ الْمَسْأَلَة : تَعَرّقْتَ يَا أَبَا عَبْد اللَّه ، أَيْ
سَلَكْت سَبِيل أَهْل الْعِرَاق فِي قِيَاسهمْ مِقْدَار الصَّدَاق عَلَى مِقْدَار نِصَاب
السَّرِقَة
-
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : اِسْتَدَلَّ مَنْ قَاسَهُ بِنِصَابِ
السَّرِقَة بِأَنَّهُ عُضْو آدَمِيّ مُحْتَرَم فَلَا يُسْتَبَاح بِأَقَلّ مِنْ كَذَا
قِيَاسًا عَلَى يَد السَّارِق، وَتَعَقَّبَهُ الْجُمْهُور بِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابِل
النَّصّ فَلَا يَصِحّ ، وَبِأَنَّ الْيَد تُقْطَع وَتَبِين وَلَا كَذَلِكَ الْفَرْجُ
، وَبِأَنَّ الْقَدْر الْمَسْرُوق يَجِب عَلَى السَّارِق رَدّه مَعَ الْقَطْع وَلَا
كَذَلِكَ الصَّدَاق .
-
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَزْنُ الْخَاتَم مِنْ الْحَدِيد
لَا يُسَاوِي رُبْع دِينَار ، وَهُوَ مِمَّا لَا جَوَاب عَنْهُ وَلَا عُذْر فِيهِ ،
لَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابنَا نَظَرُوا إِلَى قَوْله تَعَالَى ( وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ) فَمَنَعَ اللَّه الْقَادِر عَلَى الطَّوْل مِنْ
نِكَاح الْأَمَة ، فَلَوْ كَانَ الطَّوْل دِرْهَمًا مَا تَعَذَّرَ عَلَى أَحَد . ثُمَّ
تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ ثَلَاثَة دَرَاهِم كَذَلِكَ ، يَعْنِي فَلَا حُجَّة فِيهِ لِلتَّحْدِيدِ
وَلَا سِيَّمَا مَعَ الِاخْتِلَاف فِي الْمُرَاد بِالطَّوْلِ .
-
وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَة فِي النِّكَاح خَاصَّة بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ الرَّجُل " زَوِّجْنِيهَا " وَلَمْ
يَقُلْ هَبْهَا لِي . وَلِقَوْلِهَا هِيَ " وَهَبْت نَفْسِي لَك " وَسَكَتَ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازه لَهُ خَاصَّة
، مَعَ قَوْله تَعَالَى ( خَالِصَة لَك مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ )
-
وَفِيهِ جَوَاز اِنْعِقَاد نِكَاحه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الْهِبَة دُون غَيْره مِنْ الْأُمَّة عَلَى أَحَد الْوَجْهَيْنِ
لِلشَّافِعِيَّةِ ، وَالْآخَر لَا بُدّ مِنْ لَفْظ النِّكَاح أَوْ التَّزْوِيج . وَسَيَأْتِي
الْبَحْث فِيهِ .
-
وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَام يُزَوِّج مَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيّ
خَاصّ لِمَنْ يَرَاهُ كُفُؤًا لَهَا وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ رِضَاهَا بِذَلِكَ
-
وَفِيهِ جَوَاز تَأَمُّل مَحَاسِن الْمَرْأَة لِإِرَادَةِ
تَزْوِيجهَا وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّم الرَّغْبَة فِي تَزْوِيجهَا وَلَا وَقَعَتْ خِطْبَتهَا
، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعَّدَ فِيهَا النَّظَر وَصَوَّبَهُ
، وَفِي الصِّيغَة مَا يَدُلّ عَلَى الْمُبَالَغَة فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَقَدَّم مِنْهُ
رَغْبَة فِيهَا وَلَا خِطْبَة ، ثُمَّ قَالَ " لَا حَاجَة لِي فِي النِّسَاء
" وَلَوْ لَمْ يَقْصِد أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْهَا مَا يُعْجِبهُ أَنَّهُ يَقْبَلهَا
مَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأَمُّلهَا فَائِدَة
-
وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَة لَا تَتِمّ إِلَّا بِالْقَبُولِ ،
لِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ " وَهَبْت نَفْسِي لَك " وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْت
لَمْ يَتِمّ مَقْصُودهَا وَلَوْ قَبِلَهَا لَصَارَتْ زَوْجًا لَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ
يُنْكِر عَلَى الْقَائِل " زَوِّجْنِيهَا "
-
وَفِيهِ جَوَاز الْخِطْبَة عَلَى خِطْبَة مَنْ خَطَبَ إِذَا
لَمْ يَقَع بَيْنهمَا رُكُون وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَاحَتْ مَخَايِل الرَّدّ ، لَمَّا
قَالَ " لَيْسَ لِي حَاجَة فِي النِّسَاء " عَرَفَ الرَّجُل أَنَّهُ لَمْ
يَقْبَلهَا فَقَالَ " زَوِّجْنِيهَا " ثُمَّ بَالَغَ فِي الِاحْتِرَاز فَقَالَ
" إِنْ لَمْ يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَة " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْد تَصْرِيحه
بِنَفْيِ الْحَاجَة لِاحْتِمَالِ أَنْ يَبْدُو لَهُ بَعْد ذَلِكَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى
إِجَابَتهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وُفُور فِطْنَة الصَّحَابِيّ الْمَذْكُور
وَحُسْن أَدَبه
-
وَفِيهِ أَنَّ النِّكَاح لَا بُدّ فِيهِ مِنْ الصَّدَاق لِقَوْلِهِ
" هَلْ عِنْدك مِنْ شَيْء تَصْدُقهَا " ؟ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَطَأ فَرْجًا وُهِبَ لَهُ دُون الرَّقَبَة بِغَيْرِ صَدَاق
.
-
وَفِيهِ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَذْكُر الصَّدَاق فِي الْعَقْد
لِأَنَّهُ أَقْطَع لِلنِّزَاعِ وَأَنْفَع لِلْمَرْأَةِ ، فَلَوْ عَقَدَ بِغَيْرِ ذِكْرِ
صَدَاق صَحَّ وَوَجَبَ لَهَا مَهْر الْمِثْل بِالدُّخُولِ عَلَى الصَّحِيح ، وَقِيلَ
بِالْعَقْدِ . وَوَجْه كَوْنه أَنْفَع لَهَا أَنَّهُ يَثْبُت لَهَا نِصْف الْمُسَمَّى
أَنْ لَوْ طُلِّقَتْ قَبْل الدُّخُول .
-
وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب تَعْجِيل تَسْلِيم الْمَهْر .
-
وَفِيهِ جَوَاز الْحَلِف بِغَيْرِ اِسْتِحْلَاف لِلتَّأْكِيدِ
، لَكِنَّهُ يُكْرَه لِغَيْرِ ضَرُورَة
-
وَفِي قَوْله " أَعْنَدك شَيْء ؟ فَقَالَ : لَا
"
o دَلِيل عَلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقَرِينَةِ
، لِأَنَّ لَفْظ شَيْء يَشْمَل الْخَطِير وَالتَّافَة ، وَهُوَ كَانَ لَا يَعْدَم شَيْئًا
تَافِهًا كَالنَّوَاةِ وَنَحْوهَا ، لَكِنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَاد مَا لَهُ قِيمَة
فِي الْجُمْلَة ، فَلِذَلِكَ نَفَى أَنْ يَكُون عِنْده.
o وَنَقَلَ عِيَاض الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّ مِثْل
الشَّيْء الَّذِي لَا يُتَمَوَّل وَلَا لَهُ قِيمَة لَا يَكُون صَدَاقًا وَلَا يَحِلّ
بِهِ النِّكَاح، فَإِنْ ثَبَتَ نَقْلُهُ فَقَدْ خَرَقَ هَذَا الْإِجْمَاع أَبُو مُحَمَّد
بْن حَزْم فَقَالَ : يَجُوز بِكُلِّ مَا يُسَمَّى شَيْئًا وَلَوْ كَانَ حَبَّة مِنْ
شَعِير،
o وَيُؤَيِّد مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَافَّة قَوْله
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اِلْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد
" لِأَنَّهُ أَوْرَدَهُ مَوْرِد التَّقْلِيل بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَوْقه، وَلَا
شَكّ أَنَّ الْخَاتَم مِنْ الْحَدِيد لَهُ قِيمَة وَهُوَ أَعْلَى خَطَرًا مِنْ النَّوَاة
وَحَبَّة الشَّعِير، وَمَسَاق الْخَبَر يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْء دُونه يَسْتَحِلّ
بِهِ الْبُضْع،
o وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيث فِي أَقَلّ الصَّدَاق
لَا يَثْبُت مِنْهَا شَيْء:
§
مِنْهَا " مَنْ اِسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فِي النِّكَاح
فَقَدْ اِسْتَحَلَّ
§
وَمِنْهَا " مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاق اِمْرَأَة سَوِيقًا
أَوْ تَمْرًا فَقَدْ اِسْتَحَلَّ " ،
§
وَعِنْد التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث عَامِر بْن رَبِيعَة
" أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ نِكَاح اِمْرَأَة
عَلَى نَعْلَيْنِ "
§
وَعِنْد الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد فِي
أَثْنَاء حَدِيث الْمَهْر " وَلَوْ عَلَى سِوَاك مِنْ أَرَاك "
§
وَأَقْوَى شَيْء وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيث جَابِر عِنْد مُسْلِم
كُنَّا نَسْتَمْتِع بِالْقَبْضَةِ مِنْ التَّمْر وَالدَّقِيق عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَهَى عَنْهَا عُمَر " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ
: إِنَّمَا نَهَى عُمَر عَنْ النِّكَاح إِلَى أَجْلٍ لَا عَنْ قَدْرِ الصَّدَاق، وَهُوَ
كَمَا قَالَ .
-
وَفِيهِ دَلِيل لِلْجُمْهُورِ لِجَوَازِ النِّكَاح بِالْخَاتَمِ
الْحَدِيد وَمَا هُوَ نَظِير قِيمَته، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ مِنْ الْمَالِكِيَّة
كَمَا تَقَدَّمَ : لَا شَكّ أَنَّ خَاتَم الْحَدِيد لَا يُسَاوِي رُبْع دِينَار ، وَهَذَا
لَا جَوَاب عَنْهُ لِأَحَدٍ وَلَا عُذْر فِيهِ ،
-
وَانْفَصَلَ بَعْض الْمَالِكِيَّة عَنْ هَذَا الْإِيرَاد
مَعَ قُوَّته بِأَجْوِبَةٍ :
o مِنْهَا أَنَّ قَوْله " وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد
" . خُرِّجَ مَخْرَج الْمُبَالَغَة فِي طَلَب التَّيْسِير عَلَيْهِ وَلَمْ
يُرِدْ عَيْن الْخَاتَم الْحَدِيد وَلَا قَدْر قِيمَته حَقِيقَة ، لِأَنَّهُ لَمَّا
قَالَ لَا أَجِد شَيْئًا عُرِفَ أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَاد بِالشَّيْءِ مَا لَهُ
قِيمَة فَقِيلَ لَهُ وَلَوْ أَقَلّ مَا لَهُ قِيمَة كَخَاتَمِ الْحَدِيد ، وَمِثْله
" تَصَدَّقُوا وَلَوْ بِظَلْفٍ مُحَرَّقٍ وَلَوْ بِفِرْسِنِ شَاة " مَعَ
أَنَّ الظِّلْف وَالْفِرْسِن لَا يُنْتَفَع بِهِ وَلَا يُتَصَدَّق بِهِ ،
o وَمِنْهَا اِحْتِمَال أَنَّهُ طَلَب مِنْهُ مَا
يُعَجِّل نَقْدَهُ قَبْل الدُّخُول لَا أَنَّ ذَلِكَ جَمِيع الصَّدَاق ، وَهَذَا جَوَاب
اِبْن الْقَصَّار ، وَهَذَا يَلْزَم مِنْهُ الرَّدّ عَلَيْهِمْ حَيْثُ اِسْتَحَبُّوا
تَقْدِيم رُبْع دِينَار أَوْ قِيمَته قَبْل الدُّخُول لَا أَقَلّ ، وَعَلَى وُجُوب
تَعْجِيل الصَّدَاق قَبْل الدُّخُول ، إِذْ لَوْ سَاغَ تَأْخِيره لَسَأَلَهُ هَلْ يَقْدِر
عَلَى تَحْصِيل مَا يُمْهِرهَا بَعْد أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا وَيَتَقَرَّر ذَلِكَ فِي
ذِمَّته
o وَمِنْهَا دَعْوَى اِخْتِصَاص الرَّجُل الْمَذْكُور
بِهَذَا الْقَدْر دُون غَيْره وَهَذَا جَوَاب الْأَبْهَرِيّ ، وَتَعَقَّبَ بِأَنَّ
الْخُصُوصِيَّة تَحْتَاج إِلَى دَلِيل خَاصّ .
o وَمِنْهَا اِحْتِمَال أَنْ تَكُون قِيمَته إِذْ
ذَاكَ ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ رُبْع دِينَار .
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز جَعْلِ الْمَنْفَعَة صَدَاقًا
وَلَوْ كَانَ تَعْلِيم الْقُرْآن ، قَالَ الْمَازِرِيّ : هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ
الْبَاء لِلتَّعْوِيضِ كَقَوْلِك بِعْتُك ثَوْبِي بِدِينَارٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
وَإِلَّا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى اللَّام عَلَى مَعْنَى تَكْرِيمه لِكَوْنِهِ
حَامِلًا لِلْقُرْآنِ لَصَارَتْ الْمَرْأَة بِمَعْنَى الْمَوْهُوبَة وَالْمَوْهُوبَة
خَاصَّة بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا ه .
-
وَانْفَصَلَ الْأَبْهَرِيّ - وَقَبِلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَمَنْ
تَبِعَهُمَا كَأَبِي مُحَمَّد بْن أَبِي زَيْد-عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا خَاصّ بِذَلِكَ
الرَّجُل، لِكَوْنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجُوز لَهُ
نِكَاح الْوَاهِبَة فَكَذَلِكَ يَجُوز لَهُ أَنْ يُنْكِحهَا لِمَنْ شَاءَ بِغَيْرِ
صَدَاق، وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّهَا
هِيَ أَوَّلًا فَوَّضَتْ أَمْرهَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَة الْبَاب " فَرَ فِيَّ رَأْيك " فَلِذَلِكَ
لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُرَاجَعَتهَا فِي تَقْدِير الْمَهْر وَصَارَتْ كَمَنْ قَالَتْ
لِوَلِيِّهَا زَوِّجْنِي بِمَا تَرَى مِنْ قَلِيل الصَّدَاق وَكَثِيره
-
وَقَالَ عِيَاض :
o يَحْتَمِل قَوْله " بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآن " وَجْهَيْنِ
أَظْهَرهُمَا أَنْ يُعَلِّمهَا مَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآن أَوْ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا
مِنْهُ وَيَكُون ذَلِكَ صَدَاقهَا وَقَدْ جَاءَ هَذَا التَّفْسِير عَنْ مَالِك ، وَيُؤَيِّدهُ
قَوْله فِي بَعْض طُرُقه الصَّحِيحَة " فَعَلَّمَهَا مِنْ الْقُرْآن " كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَعَيَّنَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مِقْدَار مَا يُعَلِّمهَا وَهُوَ
عِشْرُونَ آيَة ،
o وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْبَاء بِمَعْنَى اللَّام أَيْ لِأَجَلِ مَا
مَعَك مِنْ الْقُرْآن فَأَكْرَمه بِأَنْ زَوَّجَهُ الْمَرْأَة بِلَا مَهْر لِأَجْلِ
كَوْنه حَافِظًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِبَعْضِهِ ، وَنَظِيره قِصَّة أَبِي طَلْحَة مَعَ
أُمّ سَلِيم وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيق جَعْفَر
بْن سُلَيْمَان عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس قَالَ " خَطَبَ أَبُو طَلْحَة مَعَ أُمّ
سَلِيم ، فَقَالَتْ وَاللَّه مَا مِثْلك يُرَدّ ، وَلَكِنَّك كَافِر وَأَنَا مُسْلِمَة
وَلَا يَحِلّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجك ، فَإِنْ تُسْلِم فَذَاكَ مَهْرِي وَلَا أَسْأَلك
غَيْره ، فَأَسْلَمَ ، فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرهَا " ،
-
وَيُؤَيِّد أَنَّ الْبَاء لِلتَّعْوِيضِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ
مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس " أَنَّ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابه : يَا فُلَان
هَلْ تَزَوَّجْت ؟ قَالَ : لَا ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّج بِهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ
مَعَك قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " الْحَدِيث .
-
وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ طَرِيق
النَّظَر بِأَنَّ النِّكَاح إِذَا وَقَعَ عَلَى مَجْهُول كَانَ كَمَا لَمْ يُسَمِّ
فَيَحْتَاج إِلَى الرُّجُوع إِلَى الْمَعْلُوم ، قَالَ : وَالْأَصْل الْمُجْمَع عَلَيْهِ
لَوْ أَنَّ رَجُلًا اِسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَلِّمهُ سُورَة مِنْ الْقُرْآن
بِدِرْهَمٍ لَمْ يَصِحّ لِأَنَّ الْإِجَازَة لَا تَصِحّ إِلَّا عَلَى عَمَلٍ مُعَيِّن
كَغَسْلِ الثَّوْب أَوْ وَقْت مُعَيَّن ، وَالتَّعْلِيم قَدْ لَا يُعْلَم مِقْدَار
وَقْته ، فَقَدْ يَتَعَلَّم فِي زَمَان يَسِير وَقَدْ يَحْتَاج إِلَى زَمَان طَوِيل
، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ دَاره عَلَى أَنْ يُعَلِّمهُ سُورَة مِنْ الْقُرْآن لَمْ
يَصِحّ ، قَالَ : فَإِذَا كَانَ التَّعْلِيم لَا تُمْلَك بِهِ الْأَعْيَان لَا تُمْلَك
بِهِ الْمَنَافِع . وَالْجَوَاب عَمَّا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمَشْرُوط تَعْلِيمه
مُعَيَّن كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْض طُرُقه ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاج بِالْجَهْلِ بِمُدَّةِ
التَّعْلِيم فَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال اُغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي بَاب الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّ
الْأَصْل اِسْتِمْرَار عِشْرَتهمَا ، وَلِأَنَّ مِقْدَار تَعْلِيم عِشْرِينَ آيَة لَا
تَخْتَلِف فِيهِ أَفْهَام النِّسَاء غَالِبًا، خُصُوصًا مَعَ كَوْنهَا عَرَبِيَّة مِنْ
أَهْل لِسَان الَّذِي يَتَزَوَّجهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
-
وَانْفَصَلَ بَعْضهمْ بِأَنَّهُ زَوَّجَهَا إِيَّاهُ لِأَجْلِ
مَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآن الَّذِي حَفِظَهُ وَسَكَتَ عَنْ الْمَهْر فَيَكُون ثَابِتًا
لَهَا فِي ذِمَّته إِذَا أَيْسَر كَنِكَاحِ التَّفْوِيض، وَإِنْ ثَبَتَ حَدِيث اِبْن
عَبَّاس الْمُتَقَدِّم حَيْثُ قَالَ فِيهِ " فَإِذَا رَزَقَك اللَّه فَعَوِّضْهَا
" كَانَ فِيهِ تَقْوِيَة لِهَذَا الْقَوْل ، لَكِنَّهُ غَيْر ثَابِت .
-
وَقَالَ بَعْضهمْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون زَوَّجَهُ لِأَجْلِ
مَا حَفِظَهُ مِنْ الْقُرْآن وَأَصْدَقَ عَنْهُ كَمَا كَفَّرَ عَنْ الَّذِي وَقَعَ
عَلَى اِمْرَأَته فِي رَمَضَان وَيَكُون ذَكَرَ الْقُرْآن وَتَعْلِيمه عَلَى سَبِيل
التَّحْرِيض ؛ عَلَى تَعَلُّم الْقُرْآن وَتَعْلِيمه وَتَنْوِيهَا بِفَضْلِ أَهْله
، قَالُوا : وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَل التَّعْلِيم صَدَاقًا أَنَّهُ
لَمْ يَقَع مَعْرِفَة الزَّوْج بِفَهْمِ الْمَرْأَة وَهَلْ فِيهَا قَابِلِيَّة التَّعْلِيم
بِسُرْعَةٍ أَوْ بِبُطْءٍ ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا تَتَفَاوَت فِيهِ الْأَغْرَاض ،
وَالْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْث الطَّحَاوِيّ
-
وَيُؤَيِّد قَوْل الْجُمْهُور قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوَّلًا " هَلْ مَعَك شَيْء تُصْدِقهَا " وَلَوْ قَصَدَ اِسْتِكْشَاف
فَضْلِهِ لَسَأَلَهُ عَنْ نَسَبه وَطَرِيقَته وَنَحْو ذَلِكَ .
-
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَصِحّ جَعْل تَعْلِيمهَا الْقُرْآن
مَهْرًا وَقَدْ لَا تَتَعَلَّم ؟ أُجِيب : كَمَا يَصِحّ جَعْل تَعْلِيمهَا الْكِتَابَة
مَهْرًا وَقَدْ لَا تَتَعَلَّم ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَاف عِنْد مَنْ أَجَازَ
جَعْلَ الْمَنْفَعَة مَهْرًا هَلْ يُشْتَرَط أَنْ يَعْلَم حِذْق الْمُتَعَلِّم أَوْ
لَا كَمَا تَقَدَّمَ ،
-
وَفِيهِ جَوَاز كَوْن الْإِجَارَة صَدَاقًا وَلَوْ كَانَتْ
الْمَصْدُوقَة الْمُسْتَأْجَرَة ، فَتَقُوم الْمَنْفَعَة مِنْ الْإِجَارَة مَقَام الصَّدَاق
، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَالْحَسَن بْن صَالِح ، وَعِنْد الْمَالِكِيَّة
فِيهِ خِلَاف ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّة فِي الْحُرّ وَأَجَازُوهُ فِي الْعَبْد إِلَّا
فِي الْإِجَارَة فِي تَعْلِيم الْقُرْآن فَمَنَعُوهُ مُطْلَقًا بِنَاء عَلَى أَصْلهمْ
فِي أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَة عَلَى تَعْلِيم الْقُرْآن لَا يَجُوز، وَقَدْ نَقَلَ عِيَاض
جَوَاز الِاسْتِئْجَار لِتَعْلِيمِ الْقُرْآن عَنْ الْعُلَمَاء كَافَّة إِلَّا الْحَنَفِيَّة
. وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مِنْ الْعُلَمَاء مَنْ قَالَ زَوَّجَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمهَا
مِنْ الْقُرْآن فَكَأَنَّهَا كَانَتْ إِجَارَة ، وَهَذَا كَرِهَهُ مَالِك وَمَنَعَهُ
أَبُو حَنِيفَة وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُفْسَخ قَبْل الدُّخُول وَيَثْبُت بَعْده
، قَالَ : وَالصَّحِيح جَوَازه بِالتَّعْلِيمِ .
-
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : قَوْله " عَلِّمْهَا
" نَصّ فِي الْأَمْر بِالتَّعْلِيمِ ، وَالسِّيَاق يَشْهَد بِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ
النِّكَاح فَلَا يُلْتَفَت لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ إِكْرَامًا لِلرَّجُلِ
فَإِنَّ الْحَدِيث يُصَرِّح بِخِلَافِهِ ، وَقَوْلهمْ أَنَّ الْبَاء بِمَعْنَى اللَّام
لَيْسَ بِصَحِيحٍ لُغَة وَلَا مَسَاقًا ،
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ زَوِّجْنِي فُلَانَة
فَقَالَ زَوَّجْتُكهَا بِكَذَا كَفَى ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاج إِلَى قَوْل الزَّوْج قَبِلْت
قَالَهُ أَبُو بَكْر الرَّازِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّة وَذَكَرَهُ الرَّافِعِيّ مِنْ
الشَّافِعِيَّة ، وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ مِنْ جِهَة طُول الْفَصْل بَيْن الِاسْتِيجَاب
وَالْإِيجَاب وَفِرَاق الرَّجُل الْمَجْلِس لِالْتِمَاسِ مَا يَصْدُقهَا إِيَّاهُ ،
وَأَجَابَ الْمُهَلَّب بِأَنَّ بِسَاط الْقِصَّة أَغْنَى عَنْ ذَلِكَ ، وَكَذَا كُلّ
رَاغِب فِي التَّزْوِيج إِذَا اِسْتَوْجَبَ فَأُجِيب بِشَيْءٍ مُعَيَّن وَسَكَتَ كَفَى
إِذَا ظَهَرَ قَرِينَة الْقَبُول ، وَإِلَّا فَيُشْتَرَط مَعْرِفَة رِضَاهُ بِالْقَدْرِ
الْمَذْكُور .
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز ثُبُوت الْعَقْد بِدُونِ
لَفْظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج:
o وَخَالَفَ ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وَمِنْ الْمَالِكِيَّة
اِبْن دِينَار وَغَيْره .
o وَالْمَشْهُور عَنْ الْمَالِكِيَّة جَوَازه بِكُلِّ
لَفْظ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ إِذَا قُرِنَ بِذِكْرِ الصَّدَاق أَوْ قَصْد النِّكَاح
كَالتَّمْلِيكِ وَالْهِبَة وَالصَّدَقَة وَالْبَيْع ، وَلَا يَصِحّ عِنْدهمْ بِلَفْظِ
الْإِجَارَة وَلَا الْعَارِيَة وَلَا الْوَصِيَّة
o وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّة بِكُلِّ لَفْظ يَقْتَضِي
التَّأْبِيد مَعَ الْقَصْد ،
o وَمَوْضِع الدَّلِيل مِنْ هَذَا الْحَدِيث وُرُود
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَلَّكْتُكهَا " ، لَكِنْ وَرَدَ
أَيْضًا بِلَفْظِ " زَوَّجْتُكهَا " قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : هَذِهِ
لَفْظَة وَاحِدَة فِي قِصَّة وَاحِدَة وَاخْتُلِفَ فِيهَا مَعَ اِتِّحَاد مَخْرَج الْحَدِيث
، فَالظَّاهِر أَنَّ الْوَاقِع مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَد
الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة، فَالصَّوَاب فِي مِثْل هَذَا النَّظَر إِلَى التَّرْجِيح
، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ الصَّوَاب رِوَايَة مَنْ رَوَى
" زَوَّجْتُكهَا " وَأَنَّهُمْ أَكْثَر وَأَحْفَظ،
o قَالَ : وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ يَحْتَمِل
صِحَّة اللَّفْظَيْنِ وَيَكُون قَالَ لَفْظ التَّزْوِيج أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ اِذْهَبْ
فَقَدْ مَلَّكْتُكهَا بِالتَّزْوِيجِ السَّابِق ، قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : وَهَذَا
بَعِيد لِأَنَّ سِيَاق الْحَدِيث يَقْتَضِي تَعْيِين لَفْظَة قَبِلْت لَا تَعَدُّدهَا
وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اِنْعَقَدَ بِهَا النِّكَاح، وَمَا ذَكَرَهُ يَقْتَضِي وُقُوع
أَمْر آخَر اِنْعَقَدَ بِهِ النِّكَاح ، وَالَّذِي قَالَهُ بَعِيد جِدًّا ، وَأَيْضًا
فَلِخَصْمِهِ أَنْ يَعْكِس وَيَدَّعِي أَنَّ الْعَقْد وَقَعَ بِلَفْظِ التَّمْلِيك
ثُمَّ قَالَ زَوَّجْتُكهَا بِالتَّمْلِيكِ السَّابِق . قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّض
لِرِوَايَةِ " أَمْكَنَّاكَهَا " مَعَ ثُبُوتهَا ، وَكُلّ هَذَا يَقْتَضِي
تَعَيُّن الْمَصِير إِلَى التَّرْجِيح
o أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِلَفْظِ التَّزْوِيج
أَكْثَر عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ بِغَيْرِ لَفْظ التَّزْوِيج، وَلَا سِيَّمَا وَفِيهِمْ
مِنْ الْحُفَّاظ مِثْل مَالِك، وَرِوَايَة سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ " أَنْكَحْتُكهَا
" مُسَاوِيَة لِرِوَايَتِهِمْ.
o وَعَلَى تَقْدِير أَنَّ تَسَاوِي الرِّوَايَات
يَقِف الِاسْتِدْلَال بِهَا لِكُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ
فِي " شَرْح السُّنَّة " لَا حُجَّة فِي هَذَا الْحَدِيث لِمَنْ أَجَازَ
اِنْعِقَاد النِّكَاح بِلَفْظِ التَّمْلِيك لِأَنَّ الْعَقْد كَانَ وَاحِدًا فَلَمْ
يَكُنْ اللَّفْظ إِلَّا وَاحِدًا.
o وَقَالَ الْعَلَائِيّ : مِنْ الْمَعْلُوم أَنَّ
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظ كُلّهَا
تِلْكَ السَّاعَة ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُون قَالَ لَفْظَة مِنْهَا وَعَبَّرَ
عَنْهُ بَقِيَّة الرُّوَاة بِالْمَعْنَى ، فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ النِّكَاح يَنْعَقِد
بِلَفْظِ التَّمْلِيك ثُمَّ اِحْتَجَّ بِمَجِيئِهِ فِي هَذَا الْحَدِيث إِذَا عُورِضَ
بِبَقِيَّةِ الْأَلْفَاظ لَمْ يَنْتَهِض اِحْتِجَاجه ، فَإِنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ هُوَ
الَّذِي تَلَفَّظَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَالَ غَيْره
ذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى قَلَبَهُ عَلَيْهِ مُخَالِفه وَادَّعَى ضِدّ دَعْوَاهُ فَلَمْ
يَبْقَ إِلَّا التَّرْجِيح بِأَمْرٍ خَارِجِيّ، وَلَكِنَّ الْقَلْب إِلَى تَرْجِيح
رِوَايَة التَّزْوِيج أَمْيَل لِكَوْنِهَا رِوَايَة الْأَكْثَرِينَ، وَلِقَرِينَةِ
قَوْل الرَّجُل الْخَاطِب " زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُول اللَّه "
o قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ
أَنَّهُ رَجَّحَ رِوَايَة مَنْ قَالَ زَوَّجْتُكهَا ، وَبَالَغَ اِبْن التِّين فَقَالَ
. أَجْمَعَ أَهْل الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الصَّحِيح رِوَايَة زَوَّجْتُكهَا وَأَنَّ
رِوَايَة مَلَّكْتُكهَا وَهْمٌ
-
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَغِبَ تَزْوِيج مَنْ هُوَ أَعْلَى قَدْرًا
مِنْهُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُجَاب إِلَّا إِنْ كَانَ مِمَّا
تَقْطَع الْعَادَة بِرَدِّهِ كَالسُّوقِيِّ يَخْطُب مِنْ السُّلْطَان بِنْته أَوْ أُخْته
. وَأَنَّ مَنْ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيج مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهَا لَا عَار عَلَيْهَا
أَصْلًا وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ غَرَض صَحِيح أَوْ قَصْد صَالِح إِمَّا
لِفَضْلٍ دِينِيّ فِي الْمَخْطُوب أَوْ لِهَوًى فِيهِ يَخْشَى مِنْ السُّكُوت عَنْهُ
الْوُقُوع فِي مَحْذُور .
-
وَفِيهِ أَنَّ سُكُوت مَنْ عُقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ سَاكِتَة
لَازِم إِذَا لَمْ يَمْنَع مِنْ كَلَامهَا خَوْف أَوْ حَيَاء أَوْ غَيْرهمَا .
-
وَفِيهِ جَوَاز نِكَاح الْمَرْأَة دُون أَنْ تَسْأَل هَلْ
لَهَا وَلِيّ خَاصّ أَوْ لَا، وَدُون أَنْ تُسْأَل هَلْ هِيَ فِي عِصْمَة رَجُل أَوْ
فِي عِدَّتِهِ:
o قَالَ الْخَطَّابِيُّ : ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ
جَمَاعَة حَمْلًا عَلَى ظَاهِر الْحَال، وَلَكِنَّ الْحُكَّام يَحْتَاطُونَ فِي ذَلِكَ
وَيَسْأَلُونَهَا
o قُلْت: وَفِي أَخْذ هَذَا الْحُكْم مِنْ هَذِهِ
الْقِصَّة نَظَر، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اِطَّلَعَ عَلَى جَلِيَّة أَمْرهَا أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ حَضَرَ مَجْلِسه
مِمَّنْ يَعْرِفهَا وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَال لَا يَنْتَهِضُ الِاسْتِدْلَال بِهِ،
o وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يُزَوِّج اِمْرَأَة حَتَّى يَشْهَد عَدْلَانِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا
وَلِيّ خَاصّ وَلَا أَنَّهَا فِي عِصْمَة رَجُل وَلَا فِي عِدَّته، لَكِنْ اِخْتَلَفَ
أَصْحَابه هَلْ هَذَا عَلَى سَبِيل الِاشْتِرَاط أَوْ الِاحْتِيَاط ، وَالثَّانِي الْمُصَحَّح
عِنْدهمْ .
-
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط فِي صِحَّة الْعَقْد تَقَدُّم
الْخِطْبَة إِذْ لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ طَرِيق هَذَا الْحَدِيث وُقُوع حَمْد وَلَا
تَشَهُّد وَلَا غَيْرهمَا مِنْ أَرْكَان الْخُطْبَة ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الظَّاهِرِيَّة
فَجَعَلُوهَا وَاجِبَة ، وَوَافَقَهُمْ مِنْ الشَّافِعِيَّة أَبُو عَوَانَة فَتَرْجَمَ
فِي صَحِيحه " بَاب وُجُوب الْخُطْبَة عِنْد الْعَقْد "
-
وَفِيهِ أَنَّ الْكَفَاءَة فِي الْحُرِّيَّة وَفِي الدِّين
وَفِي النَّسَب لَا فِي الْمَال ، لِأَنَّ الرَّجُل كَانَ لَا شَيْء لَهُ وَقَدْ رَضِيَتْ
بِهِ ، كَذَا قَالَهُ اِبْن بَطَّال ، وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ الْمَرْأَة
كَانَتْ ذَات مَال .
-
وَفِيهِ أَنَّ طَالِب الْحَاجَة لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَلِحّ فِي طَلَبهَا بَلْ يَطْلُبهَا بِرِفْقٍ وَتَأَنٍّ ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ طَالِب
الدُّنْيَا وَالدِّين مِنْ مُسْتَفْتٍ وَسَائِل وَبَاحِث عَنْ عِلْمٍ .
-
وَفِيهِ أَنَّ الْفَقِير يَجُوز لَهُ نِكَاح مَنْ عَلِمَتْ
بِحَالِهِ وَرَضِيت بِهِ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلْمَهْرِ وَكَانَ عَاجِزًا عَنْ غَيْره
مِنْ الْحُقُوق، لِأَنَّ الْمُرَاجَعَة وَقَعَتْ فِي وِجْدَان الْمَهْر وَفَقْدِهِ
لَا فِي قَدْرٍ زَائِد قَالَهُ الْبَاجِيّ ، وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون
النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِطَّلَعَ مِنْ حَال الرَّجُل عَلَى أَنَّهُ
يَقْدِر عَلَى اِكْتِسَاب قُوته وَقُوت اِمْرَأَته ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا كَانَ
عَلَيْهِ أَهْل ذَلِكَ الْعَصْر مِنْ قِلَّة الشَّيْء وَالْقَنَاعَة بِالْيَسِيرِ
.
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّة النِّكَاح بِغَيْرِ شُهُود
، وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بِحَضْرَةِ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة كَمَا تَقَدَّمَ
ظَاهِرًا فِي أَوَّل الْحَدِيث .
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّة النِّكَاح بِغَيْرِ وَلِيّ
وَتُعُقِّبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيّ خَاصّ وَالْإِمَام وَلِيّ
مَنْ لَا وَلِيّ لَهُ .
-
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز اِسْتِمْتَاع الرَّجُل بِشَوْرَةِ
اِمْرَأَته وَمَا يَشْتَرِي بِصَدَاقِهَا لِقَوْلِهِ " إِنْ لَبِسَتْهُ
" مِنْ أَنَّ النِّصْف لَهَا، وَلَمْ يَمْنَعهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِمْتَاع
بِنِصْفِهِ الَّذِي وَجَبَ لَهَا بَلْ جَوَّزَ لَهُ لُبْسه كُلّه، وَإِنَّمَا وَقَعَ
الْمَنْع لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْب آخَر. وَتُعقبَ بِأَنَّ السِّيَاق يُرْشِد
إِلَى أَنَّ الْمُرَاد تَعَذُّر الِاكْتِفَاء بِنِصْفِ الْإِزَار لَا فِي إِبَاحَة
لُبْسه كُلّه, وَمَا الْمَانِع أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَلْبَسهُ
مُهَايَأَة لِثُبُوتِ حَقّه فِيهِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ مَا يَسْتَتِر
بِهِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتهَا فِي لُبْسه قَالَ لَهُ " إِنْ لَبِسَتْهُ جَلَسْت
وَلَا إِزَار لَك "
-
وَفِيهِ نَظَر الْإِمَام فِي مَصَالِح رَعِيَّته وَإِرْشَاده
إِلَى مَا يُصْلِحهُمْ .
-
وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا الْمُرَاوَضَة فِي الصَّدَاق ، وَخِطْبَة
الْمَرْء لِنَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجِب إِعْفَاف الْمُسْلِم بِالنِّكَاحِ كَوُجُوبِ
إِطْعَامه الطَّعَام وَالشَّرَاب ؛ قَالَ اِبْن التِّين بَعْد أَنْ ذَكَرَ فَوَائِد
الْحَدِيث : فَهَذِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ فَائِدَة بَوَّبَ الْبُخَارِيّ عَلَى أَكْثَرهَا
. قُلْت : وَقَدْ فَصَلْت مَا تَرْجَمَ بِهِ الْبُخَارِيّ مِنْ غَيْره ، وَمَنْ تَأَمَّلَ
مَا جَمَعْته هُنَا عَلِمَ أَنَّهُ يَزِيد عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِقْدَار مَا ذَكَرَ
أَوْ أَكْثَر .
(4) كِتَاب اللُّقَطَة
اللُّقَطَةُ الشَّيْء الَّذِي يُلْتَقَطُ ، وَهُوَ
بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُحَدِّثِينَ
باب إِذَا أَخْبَرَهُ رَبُّ اللُّقَطَةِ بِالْعَلاَمَةِ
دَفَعَ إِلَيْهِ .
(1) عَنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ
قَالَ لَقِيتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ - رضى الله عنه - فَقَالَ أَخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ
دِينَارٍ فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « عَرِّفْهَا حَوْلاً
» . فَعَرَّفْتُهَا حَوْلَهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ
« عَرِّفْهَا حَوْلاً » فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلاَثًا
فَقَالَ « احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا
، وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا » . فَاسْتَمْتَعْتُ فَلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ
فَقَالَ لاَ أَدْرِى ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلاً وَاحِدًا
قَوْله : ( فَإِنْ جَاءَ صَاحِبهَا وَإِلَّا
فَاسْتَمْتِعْ بِهَا )
-
فِي رِوَايَةِ " فَإِنْ جَاءَ أَحَد يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا
وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ " لَفْظ مُسْلِم .
-
وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا مَالِك وَأَحْمَد ،
-
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ : إِنْ وَقَعَ فِي
نَفْسِهِ صِدْقُهُ جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا
بِبَيِّنَة ، لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ .
-
وَقَالَ الْخَطَّابِيّ : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ
لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتهَا ، وَهِيَ فَائِدَة قَوْله : " اِعْرِفْ عِفَاصهَا إِلَخْ
" وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاط مَعَ مَنْ لَمْ يَرَ الرَّدَّ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ
، قَالَ : وَيُتَأَوَّلُ قَوْله : " اِعْرِفْ عِفَاصهَا " عَلَى أَنَّهُ
أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِمَالِهِ . أَوْ لِتَكُونَ الدَّعْوَى فِيهَا
مَعْلُومَة .
ومِنْ فَوَائِد ذَلِكَ أَيْضًا:
-
أَنْ يَعْرِفَ صِدْق الْمُدَّعِي مِنْ كَذِبِهِ
-
التَنْبِيه عَلَى حِفْظِ الْوِعَاءِ وَغَيْره لِأَنَّ الْعَادَةَ
جَرَتْ بِإِلْقَائِهِ إِذَا أُخِذَتْ النَّفَقَة ،
-
وَأَنَّهُ إِذَا نَبَّهَ عَلَى حِفْظِ الْوِعَاءِ كَانَ فِيهِ
تَنْبِيه عَلَى حِفْظِ الْمَالِ مِنْ بَاب الْأَوْلَى.
-
قُلْت : قَدْ صَحَّت هَذِهِ الزِّيَادَة فَتَعَيَّنَ الْمَصِير
إِلَيْهَا، وَمَا اِعْتَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِذَا وَصَفَهَا فَأَصَابَ
فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَجَاءَ شَخْصٌ آخَرُ فَوَصَفَهَا فَأَصَابَ لَا يَقْتَضِي الطَّعْنَ
فِي الزِّيَادَةِ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ
بِالْبَيِّنَةِ فَجَاءَ آخَر فَأَقَامَ بَيِّنَة أُخْرَى أَنَّهَا لَهُ ، وَفِي ذَلِكَ
تَفَاصِيل لِلْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرهمْ .
-
وَقَالَ بَعْض مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّة : يُمْكِنُ أَنْ
يُحْمَلَ وُجُوب الدَّفْع لِمَنْ أَصَابَ الْوَصْفَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ
التَّمَلُّكِ . لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَالٌ ضَائِعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ ثَانٍ
، بِخِلَاف مَا بَعْدَ التَّمَلُّكِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إِلَى
الْبَيِّنَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْبَيِّنَة
عَلَى الْمُدَّعِي " ثُمَّ قَالَ : أَمَّا إِذَا صَحَّْت الزِّيَادَة فَتَخُصُّ
صُورَة الْمُلْتَقَط مِنْ عُمُوم " الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي " وَاللَّه
أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ : " اِحْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا
وَوِكَاءَهَا
"
-
الْوِعَاء بِالْمَدِّ وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَقَدْ تُضَمُّ,
مَا يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْء سَوَاء كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ
غَيْر ذَلِكَ . وَالْوِكَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ الْخَيْط الَّذِي يُشَدُّ
بِهِ الصُّرَّة وَغَيْرهَا . وَزَادَ فِي حَدِيثِ زَيْد بْن خَالِد " الْعِفَاص
" وَسَيَأْتِي ذِكْره وَشَرْحه وَحُكْم هَذِهِ الْعَلَامَاتِ فِي الْبَابِ الَّذِي
بَعْدَهُ .
-
وَجَمَعَ بَعْضهمْ بَيْن حَدِيث أُبَيّ هَذَا وَحَدِيث زَيْد
بْن خَالِد الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيه فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ
فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ : يُحْمَلُ حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب
عَلَى مَزِيد الْوَرَعِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّعَفُّفِ
عَنْهَا ، وَحَدِيث زَيْد عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، أَوْ لِاحْتِيَاجِ الْأَعْرَابِيِّ
وَاسْتِغْنَاءِ أُبَيّ .
( بَاب إِذَا لَمْ يُوجَد صَاحِب اللُّقَطَةِ
بَعْدَ سَنَةٍ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا )
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رضى الله عنه - قَالَ
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ
. فَقَالَ « اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا ، وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا » . قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ « هِىَ
لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ » . قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ قَالَ « مَا لَكَ
وَلَهَا ، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ
، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا »
Tidak ada komentar:
Posting Komentar